Skip to main content

عبدالنبي العكري

عبدالنبي العكري

قالت العرب «رحم الله امرئ عرف قدر نفسه»، أي عرف حدوده ومقدرته ودوره، في تورية إلى العواقب الوخيمة التي تترتب على تجاوز المرء تقدير قدراته ووضعه، لأنها تؤدي إلى التهلكة.

والدول مثل الأفراد أيضاً، تقع كثيراً في سوء تقدير لقدراتها وإمكانياتها ودورها وحدودها، فيترتب على ذلك الكوارث على الدولة والشعب والبلاد. ولنا في التاريخ القديم والحديث عبر، وأوضحها قيام الولايات المتحدة بغزو أفغانستان للقضاء على دويلة «طالبان» التي اعتبرتها مسئولةً عن إيواء «القاعدة» التي حملتها مسئولية هجمات 11 سبتمبر/ أيلول ضد الولايات المتحدة، أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم. لكنها أساءت التقدير وغطست في وحل أفغانستان التي لم ينتصر فيها أي غازٍ طوال تاريخها، من الإسكندر المقدوني حتى جورج بوش الابن. وها هي الولايات المتحدة تعمد إلى الانسحاب من أفغانستان بعد تكبّدها خسائر في الأرواح والأموال أضرّت باقتصادها ومكانتها المعنوية.

هناك اليوم دول عربية، لا يبدو أنّها تعلمت دروس الماضي والحاضر، فبعد أن استشعرت فراغ القيادة في منظومة الدول العربية، إثر تداعيات الربيع العربي الذي أربك قيادات الدول العربية الكبرى وفي مقدمتها مصر، تنطّحت هي لقيادة المنظومة العربية، مستندةً إلى قدراتها المالية فقط، ومستفيدةً من غياب الدول العربية الكبرى، لتفرض أجندتها على الجامعة العربية.

في التعاطي مع ثورات وانتفاضات الربيع العربي، عمدت تلك الدول إلى محاولة استيعاب الثورات الحقيقية كما في تونس ومصر واليمن، ومارست ابتزازاً اقتصادياً ومالياً عليها لكي تمكن القوى التقليدية على حساب القوى الديمقراطية، وتدخلت بشكل فاضح في الانتخابات المصرية ليترتب عليها ما نعرف من غلبة التيار الإسلامي على حساب التيار الديمقراطي، لكنها لم تتورع أن تدفع بالصراع المحلى كما في ليبيا سابقاً، وسورية حالياً، إلى الحرب الأهلية، ليس دعماً للشعب، أو تحقيقاً لتحول ديمقراطي، ولكن لدعم القوى الإسلاموية المحافظة على حساب الديمقراطية وإحباط أي تحول ديمقراطي حقيقي.

وهكذا تجاهر هذه الدول بوصف الربيع العربي بـ «الربيع الدموي»، ولا غرابة أن تستخدم كل الوسائل بما في ذلك الدعم العسكري والمالي لإحباط حراك شعبي سلمي من أجل الإصلاح، وليس الإطاحة بالأنظمة، لتتفرغ لاحتواء الربيع العربي في المحيط العربي.

هذه الدول تصدت بعد زلزال الربيع العربي، لإعادة صياغة العلاقات ضمن المجموعة العربية، فبدأت تفرض أجندتها على الدول الكبرى كمصر، وفي قضايا عربية كسورية، وقضايا تهم العرب كإيران، من دون اعتبار للتوافق العربي والمصلحة العربية العليا. ولكن كما تقول أم كلثوم، «إنما للصبر حدود»، وهكذا بدأ التململ ضد هذا الدور وخصوصاً من القوى الصاعدة، في أوساط الشعوب العربية في مصر وتونس واليمن، بحيث بدأت التحشدات أمام سفارات بعض هذه البلدان، وحرق دمى ترمز لزعمائها والسخرية منها في برامج الشو التلفزيونية. وقد عانينا الأمرّين في المنتدى الاجتماعي العالمي، في محاولة الشرح أن الأحمر علم البحرين وليس قطر، بعد أن ووجهنا بالتهجمات من جمهور تونسي غاضب على قطر.

وبالنسبة للعلاقات مع الجارة المسلمة إيران، وبغض النظر عن الخلافات معها وتباين وجهات النظر في القضايا الإقليمية والدولية، فإن إيران دولة جارة مسلمة كبرى، يجمعنا بها الدين الإسلامي والتاريخ والحضارة والمصالح، وخصوصاً أنها تقف معنا في قضيتنا الكبرى (فلسطين)، لكن هذه الدول تصر على تصوير إيران كعدو خطير، بل يذهب بعض دعاة الفتنة والتكفير لاعتبارها أخطر من «إسرائيل»، ولا تتورع وسائط الإعلام من صحف صفراء وفضائيات ناعقة، بالترويج للمؤامرة الصفوية والتوسعية الإيرانية، ودقّ نفير حرب طائفية شيعية سنية.

وحتى بعدما بدأت مؤشرات تقارب أكبر دولتين إسلاميتين في المنطقة، مصر وإيران، عمدت أوساط خليجية للنفح في الخلافات من جديد لتحبط هذا التقارب الذي هو في صالح البلدين والأمتين العربية والإسلامية، وهكذا روّج الإعلام الخليجي لسلفيين حاقدين وهم يحاصرون بيت السفير الإيراني في القاهرة.

إن هذه الدول تستطيع أن تجلس مع إيران وتتفاوض معها حول كل القضايا المختلف عليها والتوصل إلى اتفاقات في صالح الطرفين، وليس مواصلة استعداء الغرب ضد إيران، فالغرب يعرف مصالحه ولن ينساق أمام التهويل.

وإذا ما أخذنا الملف الاقتصادي العربي، فقد شهدت الرياض مؤخراً القمة العربية الاقتصادية الثالثة بعد شرم الشيخ والكويت. هذا الملف الاقتصادي الثقيل تعاطت معه هذه الدول من دون جدية. والمعروف أن الدول العربية جميعاً، باستثناء دول المجلس وليبيا، تعاني من أزمة اقتصادية حادة لها تجليات عدة، أخطرها البطالة التي تتراوح ما بين 20 و40 في المئة، ومعظمها قوى شابة، تسعى لحياة كريمة واعدة لكنها تصطدم بجدار البطالة والتهميش، وبذلك تتحوّل إلى قنابل متفجرة. وبدل أن تنكب هذه الدول، كما يفعل الاتحاد الأوروبي، على صياغة استراتيجية لتنشيط الاقتصاد من خلال ضخ الاستثمارات المجدية، ودمقرطة الحياة السياسية، والحد من الفساد والاحتكار، وإزالة الحواجز أمام التبادل والاستثمار العربي للبشر والبضائع والخدمات، فإنه كرّر في البيان الختامي تلك العبارات المعروفة عن تنشيط السوق العربية المشتركة والتعاون العربي وغير ذلك. في وقت تتدفق مليارات العائدات النفطية مرة أخرى إلى الغرب في صورة صفقات أسلحة خيالية، واستثمارات حتى في الأندية وشراء مستندات وإنفاق بذخي في الداخل على مشاريع غير مجدية. وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب الأموال الخاصة الخليجية، الذين يبارون دولهم في الاستثمارات الخارجية والداخلية غير المنتجة، والمعركة محتدمة بين بعض الشركات على من يبني أعلى برج في العالم! ويندرج تمويل الجماعات التكفيرية وتسليح العصابات المسلحة طبعاً في خانة الإنفاق المدمّر، على حساب الاستثمار في المشاريع العربية القومية.

ألا تفكّر هذه الدول كيف أن الاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا الغنية القوية في أقصى الشمال الأوروبي، تهب لدعم اليونان البلد الأوروبي الفقير في أقصى الجنوب الأوروبي لتنهض من كبوتها، فيما تتجاهلون أشقاءكم، والشاعر العربي يقول:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من ضرب الحسام المهند.

فلا يأخذنكم غرور الفتى، وانكسار أشقائكم، وإساءة التقدير.

http://www.alwasatnews.com/3876/news/read/765306/1.html