عبد النبي العكري – ناشط حقوقي
تحتفل البشرية بيوم التاسع من ديسمبر/ كانون الأول من كل عام كيوم عالمي لمكافحة الفساد، بعد أن أقرته الأمم المتحدة، وهو مناسبة لمراجعة كل مجتمع وكل بلد والعالم أجمع لحصيلة العام، وما تم إنجازه وما لم ينجز. لقد تميز العام 2016 بحراك لا سابق له في كشف الفساد في عدد من الدول، وعلى امتداد العالم والتصدي له في مسابقة ملفتة للنظر.
ويعود الفضل في كشف الفساد في قمة عدد من الأنظمة، إلى الحركة المجتمعية المناضلة ضد الفساد ومن أجل الشفافية والنزاهة والحكم الصالح، والتي أضحت من مكونات برامج القوى السياسية والمجتمعية الديمقراطية والتقدمية، كما يعود الفضل في ثورة التواصل والاتصالات عبر الشبكة العنكبوتية، ووجود مناضلين مثل جوليان أسانج ومنظمات مثل «رابطة الصحفيين الاستقصائيين» في الوصول إلى معلومات بالغة السرية تخص الفئات الحاكمة والشركات العابرة للقارات والمتنفذين، سياسياً واقتصادياً.
فقد تمكنت «ويكيليكس» التي يقودها أسانج من ملجئه في سفارة الأكوادور في لندن، والمطلوب للقوى المتنفذة وبقيادة أميركا، بكشف الفساد المالي لكل من مرشحي الرئاسة كلينتون وترامب، وخصوصاً في تمويل حملتها الانتخابية من قبل أنظمة معينة. كما كشفت عن شبكة من كبار رجال الأعمال العرب في تمويل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة مثل «داعش «والنصرة وأخواتها. أما «رابطة الصحفيين الاستقصائيين» فقد كشف عن دور شركات محاماة في بنما ومنها «موساك فونيسكا» تقوم بتسهيل وشرعنة غسل الأموال، ومتهم فيها ويا للأسف شخصيات عامة تدعي النزاهة والدفاع عن حقوق شعوبها، ومكافحة الفساد والاستغلال وتستغل مناصب رفيعة في الدول والمجتمعات.
وقد تم نشر هذه الوثائق في عدد من الصحف الألمانية، والمفارقة هي انعقاد المؤتمر العالمي السابع عشر لمكافحة الفساد في بنما في بداية هذا الشهر، فيما لم تتخذ أية إجراءات بحق هذه المكاتب، بل العكس منها مازالت تعتقل الصحافي الهولندي إيكي إدمستين الذي أسهم في الكشف عن وثائق الفساد ونشرها.
لكن المحصلة هي انتشار الوعي بخطورة الفساد على رفاهية الشعوب وصدقية النظام السياسي وفاعليته في الدول الديمقراطية، ولقد تبنت الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2015 استراتيجية التنمية المستدامة ٢٠٣٠ حيث ينص البند السادس عشر على أن الفساد يقوض التنمية المستدامة، والذي تتوجب محاربته من دون هوادة. بالطبع لم يبدأ النضال ضد الفساد هذا العام، لكن هذا العام شهد تتويجاً لحراك جماهيري في عدد من الدول، نجح في الإطاحة بقيادات عليا في الدولة. مثل ذلك البرازيل فعلى رغم سجل الرئيسة ديلما ريسيف ضد الدكتاتورية وإنجازاتها كنائبة للرئيس العمالي لولادي سيلفا ثم كرئيسة للبرازيل، ونزاهتها المؤكدة، إلا أنها أخطأت في ضبط مساعديها خلال الحملة الانتخابية، بحيث جرى التلاعب في مصادر تمويل الحملة، ما أدى إلى عملية دستورية انتهت بإقصائها من الرئاسة، لكن الأمر لم يتوقف عندها، حيث تجري تحقيقات في شبهات وتطال الرئيس المؤقت الفونسو ثامر وعدد من وزرائه، وقد استقال بعضهم، وقد تؤدي إلى إقالة ثامر أيضاً، وبذا يكرس تقليد برازيلي أنه لا مكان ولا حصانة للقادة الفاسدين، وفي كوريا الجنوبية، تصاعدت الحملة الشعبية والضغط السياسي من قبل المعارضة لإقالة الرئيسة بارك نوين بعد اتهامها بالمحاباة في تعيين صديقتها شو سون سيل كمستشارة لديها، واستغلالها لموقعها وصداقتها مع الرئيسة في ابتزاز عدد من الشركات والحصول على ملايين.
والرئيسة ليست متهمة بالفساد، بل المحاباة، ويوم أمس أقال البرلمان الكوري الرئيسة بارك نوين؛ لأن المطلب لم يعد مقتصراً على أحزاب المعارضة بل يشمل قطاعاً واسعاً في حزبها الحاكم سانوري، وهو درس آخر للرؤساء والقادة المنتخبين ديمقراطياً بعدم إساءة استغلال السلطة أو الغفلة، وفي ماليزيا يصارع رئيس الوزراء، نجيب رزاق زعيم حزب الملايو المتحد الحاكم من أجل البقاء، بعد اكتشاف حصوله على مئات الملايين من الدولارات من دولة خارجية لضمان تحالفه ودعمه في مواجهة المعارضة الديمقراطية بقيادة نائب رئيس الوزراء السابق إبراهيم. وقد انشقت المعارضة بحيث ضمت حتى الرئيس السابق مهاتير محمد، المطالبة باستقالة رزاق.
وبالمقابل فإن رزاق يتمسك بالحكم، ويدفع بتعميق الأزمة والانقسام حيث يسعى لطرح نفسه كمدافع عن الملايو (الغالبية العرقية) والإسلام في مواجهة الأعراق والديانات الأخرى، وقد أعلن في مؤتمر حزب الملايو المتحد تأييده لتطبيق الشريعة الإسلامية في دولة يفترض أنها مدنية، وحث الحزب على القتال في وجه خصومه، والاستعداد للانتخابات في العام المقبل، مستخدماً لغة طرح قضايا لا سابق لها في ماليزيا.
هذه نماذج لرؤساء ودول سقطوا وآخرين في طريق السقوط نتيجة قضايا فساد وشبه فساد واستغلال للنفوذ، ونتذكر هنا كلام صانع المعجزة السنغافورية لي كوان يو حينما قال: «تنظيف الفساد مثل تنظيف السلم يبدأ من فوق» وقد قرن لي كوان يو القول بالفعل، ولم يتملك في رئاسته شيئاً سوى شقة بسيطة، توفي فيها ولم يخلف حساباً بنكياً متضخماً، كما قدمت مستشارة ألمانيا وصانعة مجدها ميركل نموذجاً آخر على النزاهة والتواضع، فهي مازالت تعيش في الشقة ذاتها التي كانت تعيش فيها كأكاديمية، فأين نحن العرب المنكوبين من كل ذلك.
العدد 5208 – السبت 10 ديسمبر 2016م الموافق 10 ربيع الاول 1438هـ