ونحن نتابع فصول المأساة السورية، ذكرنا بيان المفوضية السامية لحقوق الإنسان، وهي جهة موثوقة عن حجم المأساة حيث ذكر بيان صادر عنها يوم الخميس 3 يناير/ كانون الثاني 2012 أن ضحايا الحرب الأهلية في سورية تجاوز الستين ألفاً، لكن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير، حيث هناك العديد من المفقودين والجرحى في وضع حرج في ظل افتقاد الرعاية الصحية الكافية. كما ذكر بيان المفوض السامي لحقوق الإنسان أن بعض أعمال القتل ترقى إلى جرائم حرب.
كلنا تابعنا على شاشات الفضائيات مشاهد مروعة لهذه الحرب القذرة، مثل القتل الجماعي بالسكاكين والأسلحة النارية وقصف الطيران والصواريخ والمدافع والدبابات للمدنيين العزل. بل إنه تم قصف الجموع حول مخبز في ناحية حماه، وقصف محطة بنزين مكتظة بالسيارات في ريف دمشق، بينما التفجيرات بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة تزرع الموت والرعب.
وأنا أتابع هذه المشاهد المروعة تبادرت إلى ذهني مشاهد تقشعر لها الأبدان في تاريخ النزاعات العربية. تذكر مذبحة كربلاء التي قتل فيها الجيش الأموي الإمام الحسين بن علي (ع) سبط رسول الله وأفني من كان معه من أهل بيته وأصحابه، بما في ذلك الرضيع عبدالله ولم يبقَ إلا الإمام زين العابدين. في حين ناشدهم الإمام الحسين في النهاية أن يتركوا من معه إلى حال سبيلهم، فهو أتى بدعوة من أهل الكوفة ليبايعوه، وقد نقضوا عهدهم.
نتذكر الحجاج بين يوسف الثقفي الذي حاصر الكعبة التي لجأ إليها عبدالله بن الزبير، ابن الصحابي المعروف الزبير ابن العوام، فما كان من الحجاج إلا أن قصفها بالمنجنيق، هادماً كعبة الله ومستبيحاً أرواح المسلمين في الحرم الملكي، لكن الحجاج يهون عن ابنه كما في الرواية المعروفة.
نذكر أيضاً قصة أبي العباس السفاح، أول خليفة عباسي ولقبه السفاح يدل عليه، فقد ذكر أنه جمع من تبقى من أرباب بني أمية على (عزيمة) مصالحة وعفو، وبعد أن وصلوا جميعاً، أمر السيّافين فقطعوا رؤوسهم جميعاً، ثم أمر بمد البساط على جثثهم وبعضهم يعاني سكرات الموت، وتناول الحاضرون طعام الغداء.
نذكر كذلك مذبحة القلعة التي قام بها محمد علي باشا بعد أن سيطر على قاهرة المعز، وهزم المماليك، ثم استدرجهم إلى القلعة بدعوى العفو والمصالحة، ثم أعمل فيهم تقتيلاً ولم ينجُ منهم إلا من قفز برجليه من أسوار القلعة.
وفي عصرنا الحالي والقريب نتذكر مجزرة الدار البيضاء في 11 مارس/ آذار 1965 بالمغرب، عندما عمّ أكبر مدينة مغربية إضراب عام، وانتفاضة الكرامة، فما كان من الملك الحسن الثاني، إلا أن أمر بإطلاق النار على المتظاهرين وقتل المئات.
نتذكر مجزرة أيلول الأسود في 1970 ضد المخيمات الفلسطينية من قبل قوات البادية الأردنية. كما نتذكر مجزرة صبرا وشاتيلا على يد قوات الكتائب اللبنانية في أكتوبر/ تشرين الأول 1982 بعد انسحاب القوات الفلسطينية قسراً من لبنان، إثر الغزو الإسرائيلي للبنان في يونيو/ حزيران 1982، وتحت سمع وبصر القوات الغربية (الأميركية والفرنسية) وبالطبع الإسرائيلية.
أما العراق فقد ارتبط تاريخه القديم والحديث بالمجازر والانقلابات الدموية أكثر من أي بلد عربي آخر، نتذكر مجازر كركوك، وعملية الأنفال من قبل قوات صدام ومذبحة حلبجة والمجازر التي رافقت الانتفاضة الشعبانية إثر انسحاب القوات العراقية من الكويت في فبراير/ شباط 1991. أما في الخليج فكان مسرحاً للحروب الأهلية والغزوات القبلية، حتى وضع الإنجليز حداً لذلك وفرضوا ما يسمى بالسلام البريطاني (Paxa Britainca) وقد تكون تلك حسنتهم الوحيدة.
كثيرة هي المجازر والانقلابات الدموية والحروب الأهلية التي شهدتها بلداننا العربية، ووسمت تاريخ هذه الأمة، ونحن لن نستعرض الحروب الاستعمارية والصهيونية فذلك مجالٌ آخر، ولكننا نتعرض هنا لظاهرة العنف الدموي العربي العربي. ما هي دوافع هذه القسوة الشديدة في تعامل العرب مع بعضهم البعض؟ وحتى في تعامل أبناء الأسرة الواحدة؟ لماذا قسوة الأب على زوجته وأبنائه؟ وقسوة أبناء العمومة على بعضهم البعض؟ وقسوة الجار على جاره؟
والأخطر قسوة السلطة ضد شعبها وخصوصاً حين تكون سياسة ممنهجة، وتتجلى في تسلط أصغر شرطي أو جندي على المواطن، واستعداد ما يعرف بالموظف العمومي المناط به إنفاذ القانون، للجوء إلى العنف الشديد، والتعذيب والإهانة المتعمدة للمواطن.
ولعل الصفعة التي تلقاها محمد البوعزيزي، الشاب التونسي على يد شرطية، هي نموذج للصفعات والركلات التي يتلقاها المواطن العربي كل يوم على يد الشرطة وغيرهم من الموظفين الأمنيين، وربما آخرها الصفعة التي تلقاها المواطن البحريني حيدر عبدالرسول على يد الشرطي علي عارف، من دون أي استفزاز، وهو يحمل ابنه الصغير.
يذكر عالم الاجتماع العراقي المعروف على الوردي في تحليله للمجتمع العراقي، وهو صورة للمجتمع العربي، أن ذلك يعود لروح وأخلاق البداوة المتأصلة في نفوس العراقيين بمن فيهم الذين استقروا في المدن لعقود. ويقصد الوردي هنا روح الغزو للآخرين والاستباحة للخصم، من نساء وأموال.
إن روح الغزو والاستباحة مازالت عقيدة النخب والقبائل والسلطات الحاكمة، لكنها إن كانت لا تتمثل في الغزوات الحربية والسبي إلا أنها تتجلى في استباحة الأموال العامة ونهب الأراضي، وإخضاع المواطنين وإذلالهم. وتجلت هذه القسوة في التعامل مع الاحتجاجات الجماهيرية السلمية في أكثر من بلد عربي والذي يوصف مواطنوه بالطيبة والدعة.
أما السبب الجوهري في نظري في قسوة الأنظمة العربية والحكام العرب ضد شعوبهم ومواطنيهم فنابع من عقيدة الحكم، فالحكم عند العربي تملك، وحق وإرث، وليس خدمة عامة، وتكليف وليس تشريفاً، بأحد محدود.
لذا فنادراً ما يكون هناك تداول سلمي للسلطة حتى في ظل حكم الملكيات، فكثيرة هي انقلابات القصور والمذابح العائلية، ولذا فإن أية بادرة احتجاج أو مطالب من فرد أو جماعة أو شعب ينظر إليها من قبل الشرطي أو المسئول أو الحاكم بأنها تمرد خطير على علاقات الإخضاع، ويتم التعامل معها بقسوة وعنف، ولا يتردد النظام عن اللجوء للمجازر لردع المتمردين.
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3789 – الإثنين 21 يناير 2013م الموافق 09 ربيع الاول 1434هـ